فصل: باب: الحال التي تجب فيها النفقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في الكسوة:

10100- الزوجة تستحق على زوجها الكسوة، والكلام في قدرها، وجنسها، وجهة تسليمها.
فأما القدر، فلا قدرَ، والكُسوةُ مبناها على الكفاية، بخلاف النفقة، والدليل عليه أن الطعام مقدَّرٌ في الكفارة، والكُسوة مقدّرة ولكنها محمولة على دراهم في تفاصيلَ ستأتي مشروحةً في كفارة الأَيْمان، ولا يمكن الاكتفاء بالاسم فيما نحن فيه، فإن ستر المرأة من فوقها إلى قدمها محتومٌ إلا فيما يظهر منها ويبدو في الصلاة، فحقٌّ على الزوج القيامُ بالكُسوة. ثم الجثث والقُدود تتفاوت تفاوتاً عظيماً، والقوت الذي يقع غنيةً وبلاغاً وقد يعم معظمَ طبقات الخلق. هذا هو القول في الأصل المرعي في ذلك.
10101- فأما الجنس فقد قال الشافعي: الكسوة على المعسر من غليظ البصرة، يعني الكرباسَ الغليظ، وهي على الغنيِّ من ليِّن البصرة، يعني الكرباس الليّن الرقيق، والمتوسط بين المعسر والغني.
وإذا كان الأصل مبنياً على الكفاية، فالقول في التفصيل يجري على التقريب لا محالة.
قال العراقيون: هذا الذي ذكره الشافعي محمول على ما عهده في زمانه، ولعل أهله كانوا يكتفون بالليّن والغليظ، فأما إذا عمّت العادات في زمان بإلباس المرأة الحريرَ، والخزَّ، والكتان، وما في معانيها، وكان ذلك لا يعدّ سرفاً ومجاوزةَ حدٍّ، فيجب إلباس المرأة هذه الفنون، إذا هي طلبتها على شرط الاقتصاد والجريان على الاعتياد.
وعلى هذا لا منتهى للجنس، ويجب أن لا يعرض موقف، حتى لو عظم يسار الرجل، ازداد شرفُ الأصناف التي يكسوها زوجاته.
وكان شيخي يقول: ما رآه الشافعي لا مزيد عليه، وهو لبس الدَّيِّن، فأما ما عداه، فاعتياده من شيم المترفين.
هذا قولنا في جنس الكسوة.
ولا خلاف أن الخادمة في كُسوتها محطوطةٌ عن المخدومة، والجنس في القوت لا يختلف، وفي الكسوة يختلف، وفي الأُدم خلافٌ قدّمناه.
ثم على الزوج أن يكسو امرأته في الصيف خماراً وقميصاً وسراويل، على حسب ما يليق، كما تقدم التفصيل، ثم يُلبسَها في الشتاء جُبةً تُدفئها على حسب مسيس الحاجة إلى الإدفاء، وقد يكون للخادمة فروةٌ على ما تقتضيه العادة في المغايرة، والقميص الواحد يبلى ولا يدوم السنة.
ثم ذكر العراقيون في ذلك مسائل نذكرها في آخر الفصل.
10102- فأما جهةُ الكُسوة، فقد اختلف أصحابنا فيها: فذهب بعضهم إلى أنها إمتاع ولا يجب التمليك فيها، فعلى هذا لو استأجر الزوج ثياباً وكَسَتْ بها، كفى ذلك، وكذلك لو استعار.
والوجه الثاني- أنها تستحق تمليكَ الكُسوة، كما تستحق تمليكَ النفقة، وهذا قد يشهد له العادة.
فإن قلنا: المستحق في الكُسوة إمتاعٌ، فلو سلم ثوباً إليها ولم يملِّكها، فتلف الثوب في يدها من غير تقصير منها، فالوجه عندنا القطع بأنها لا تضمن؛ فإنها تستحق أن تكسى ويدُ الاستحقاق في الانتفاع لا تُثبت الضمانَ في العين، ولو كنا نضمنها ما يتلف في يدها من الثياب، لتفاقم الضرر عليها، ولكانت على غرر طول زمانها، وعلى خطرٍ في شأنها.
وإن قلنا: إنها تُملَّك، فلا يخفى التفريع.
ثم القول في تمليك الخادمة وإمتاعها كالقول في الزوجة سواء بسواء.
10103- وهذا أوان الوفاء بما ذكره العراقيون. ونحن نُجري مسلكاً نراه أضبط وأجمع، ونذكر في أثنائه كلامَ العراقيين، فنقول: إذا سلّم إلى المرأة كُسوةَ الصيف مثلاً، فتلفت في يدها، فإن قلنا: الكُسوة إمتاع، ولم تُقصِّر، فعلى الزوج أن يجدد إمتاعَها بكُسوة أخرى، فإن إدامة الإمتاع محتومةٌ.
وإن قلنا: جهةُ الكسوة التمليكُ، فإن ملكها وظيفةَ الصيف، فتلفت في يدها من غير تقصير، ففي المسألة وجهان: أقيسهما- أنه لا يجب على الزوج تجديد الكُسوة؛ فإنه وفاها حقها ملكاً، وأقام لها حقها المستحَقَّ، فأشبه ما لو أعطاها النفقة وملّكها ثم تلفت في يدها.
والوجه الثاني- أنه يلزم التجديد؛ فإن الكسوة وإن كانت على التمليك، فإنها على الكفاية، وهذا ضعيف لا اتجاه له، ولا خلاف أنه لو انقضت نوبةُ الكُسوة، والكُسوة معها، فلو حكمنا بأن الكسوة إمتاع، لم يجب التجديد، وإن حكمنا بأن جهة الكسوة التمليك، فيجب الوظيفة.
10104- ومما يتعلق بذلك ما ذكره العراقيون في النفقة والكسوة عند طريان الموت، قالوا: إذا أعطى زوجتَه نفقة يومها فماتت، لم يسترد نفقة ذلك اليومِ، وقد ذكرنا ذلك.
وإن قدم لها نفقة أيام، استرد الزائدَ على نفقة ذلك اليوم، هذا ما قطع العراقيون به، وفيه خلاف ذكرناه. وإن وفاها كُسوة الصيف، فماتت في أثناء الصيف، ذكر العراقيون في استرداد تلك الكسوة وجهين في ترتيبهم.
والذي نراه أن الكسوة إن كانت إمتاعاً، فهي مستردة؛ فإنها ما ملكتها إلا أن يكون وهبها الزوج منها.
وإن كان التفريع على أن جهة الكُسوة التمليك، فالصيف في كسوة الصيف كاليوم الواحد في النفقة.
وما أطلقوه من الوجهين يخرجان على الإمتاع والتمليك، كما قدمناه.
10105- ومما يتم به البيان أنا إذا جعلنا الكسوة إمتاعاً، فلو أتلفتها، فلا شك في وجوب الضمان، وهل تستحق كُسوةً جديدة إمتاعاً بها؟ الوجه الظاهر أنها تستحقها إدامةً للإمتاع، وفيه احتمال مأخوذ من إعفاف الابن أباه؛ فإنه إذا أعفه بزوجة فطلقها، فهل يجب على الابن أن يعفه مرة أخرى؟ فيه خلاف ذكرناه في موضعه، والوجه في الكسوة إيجاب التجديد.
وإن أتلفت وفرطت، فإنها تضمن، فكأنها ردّت ما أخذت. نعم، يجوز أن يقال: هذا الخلاف يجري في التقديم والتأخير، حتى إذا أرادت المطالبة بتجديد الكسوة قبل أن تغرَم للزوج قيمةَ ما أتلفت، فهل لها ذلك؟ هذا يخرج فيه الخلاف خروجاً مستدّاً وقد نجز القول في الكُسوة.
10106- وما يتصل بهذا القولُ في الشعار، والدثار، وما يفرش. قال الشافعي: "لها مِلْحفةٌ ووسادة ومُضَرَّبةٌ وثيرة"، ويختلف ذلك بالغنى والفقر اختلاف الكسوة.
وللخادمة ثياب ليلها على قدر الكفاية، مع التفاوت الظاهر في المرتبة، حتى قال الشافعي: ثوب ليل الخادمة في حق المعسر كساءٌ.
ثم الكلام فيما يفرش: قال العراقيون: تحت المضرَّبة لِبدٌ أو حصيرٌ، وهل لها زِلّيّة تفرشها بالنهار؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون- واقتصروا في الفرش على هذا القدر، ولم يردّوا الأمرَ إلى العادة، ونحن نعلم أن الفقير الذي نفقته في اليوم مدٌّ يكفي مسكنَه فرشٌ يستر أبنيةً أو بناء واحداً.
ثم لم يرَوْا اعتبار هذا في حق الغني، وردّدوا الخلاف في الزِّلّية، وتوسعوا في الكُسوة، وحملوا نص الشافعي حيث ذكر ليّن البصرة في حق الغني على عادة زمانه، وأثبتوا في عادات زماننا الخز والحرير.
وهذا في ظاهره تناقض منهم، تبيّن به أن الوجه اتباع ما لابد منه، وما عداه تجملٌ وزينة لا يتعلق الاستحقاق به، ويمكن أن يقال: ما اعتبره الشافعي من ليّن البصرة على الغني لم يثبته زينةً، وإنما أُثبت إمتاعاً بالثوب الذي يلين حسّه ولا تتأثر البشرة به، وهذا ما أردنا التنبيه عليه.
10107- والمسكن في النكاح لابد منه، ثم رأيت للأصحاب في أبواب العِدد عند ذكرهم مسكن النكاح أنه يُسكنها مسكناًً يليق بها، فاعتبروا في ذلك جانبها، ولم يعتبروا في جنس القوت جانبها، وإنما اعتبروا فقر الزوج وغناه، كما قدمناه.
وقد يعترض في هذا سؤالٌ من جهة أن المرأة وإن كانت رفيعة المنصب والزوج يحصرها وحدها أو مع خادمة في الدار، وله أن يمنع أهليها من مداخلتها، وقد نوجب على الفقير أن يُخدِم زوجتَه، واتساعُ المسكن إنما تمس الحاجة إليه لكثرة الساكنين، فما وجه ذلك والطرق متفقة على أن المساكن تختلف باختلاف أقدار الزوجات؟ والأصل في هذا أن الكبيرة المنصب إذا كانت ألفت مسكناًً فسيحاً ينسرح الطرف فيه، فلو رُدّت إلى حجيرة منخفضةِ السقوف ضيقةِ الأبنية، كان ذلك بالغاً في الإضرار بها، وهذا واضح في العادات، ولذلك أطبق أهل المروءات على التباهي بالمساكن وارتياد ما يليق بأحوالهم منها، حتى إذا فرض مسكنٌ محطوطُ القدر عُدّ الاكتفاء به نُكراً في العرف، وخَرْماً للمروءة.
والذي ينتظم عندنا في هذه الأبواب أن ما يكون إمتاعاً في حقوق الزوجة يجب أن يُرعى فيه منصبها وحالها، وما يكون مبناه على التمليك، فلا فرق فيه بين أن تكون رفيعةً أو خاملة، وإنما يختلف القدر فيه بتوسع الزوج في الثروة أو نقيض هذه الحالة تعلّقا بقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، وقوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، وما أشار إليه العراقيون من التردد في الكُسوة أُدراه مبنياً على أنها إمتاع أو تمليك، والعلم عند الله.
فإذاً لا تمليك في المسكن، ولا في المفارش، وثياب الليل ملتحقةٌ بالفرش؛ إذ يبعد أن يجب عليه تمليكُهَا ثيابَ الليل، ثم يضاجعها في ثيابها، والنفقة والأُدم على التمليك، وفي الكُسوة الخلاف الذي قدمناه.
10108- ثم قال الشافعي: "على الزوج أن يُهيىء لها عتادها في التزين والتنظف فيشتري لها مشطاً، وما يليق به إن كانت تحتاج إلى مزيد... إلى آخره".
ثم قال الأئمة: للخادمة أصل النفقة والأُدم تبعاً وأصلاً، كما تقدم، وهي تُمتَّع بالمسكن تمتعَ الزوجة، ولابد لها مما يدفئها ليلاً على قدرها، وهي محطوطة عن المخدومة، وليس لها آلةُ التنظف كالمشط وغيره، ولها خُفان إن كانت تحتاج إلى الخروج، ثم كُسوتها في التمليك والإمتاع ككسوة الزوجة، وأرى خفَّها في معنى كُسوتها.
وللزوجة المشط والدهن الذي تترجل به، فإن كانت تبغي مزيداً تتزين به كالكحل والطيب، فلا تستحق شيئاًً من ذلك، والأمر فيه مفوّض إلى الزوج، والزوج يجنبها ما يتأذى به إذا تعاطته كالأطعمة التي لها روائحُ كريهة.
ولو كانت تتعاطى من الأطعمة ما يغلب على الظن أنه يُمرضها، فهل للزوج أن يمنعها منه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون:
أحدهما: لا يمنعها؛ فإن المرض غيبٌ ولا تتأذى في الحال، ولو فتحنا هذا الباب، لطال نظرنا في منع الزوج إياها من مزيدٍ في القدر تتعاطاه من الطعام، وفي تكليفها أموراً ظنيّة، وإن كان ما تتعاطاه مما يؤثر تأثير السموم، فلا شك في أنه يمنعها، كما يمنعها أن تقتل نفسَها.
ومما تعرض له الأصحاب في الخادمة أنها إذا احتاجت إلى إزالة الوسخ عن نفسها، ولو لم تفعل ذلك، لتأذت بالهوامّ والوسخ، ثم تأذت المخدومة بها إذا كانت تخامرها، فيجب على الزوج أن يكفيَها ذلك، وقد يكون من حاجتها المشط، هكذا ذكره الصيدلاني، وهو حسن متجه.
وفي بعض التصانيف ليس لها المشط، فإنها إن تأذت، كان تأذيها بمثابة تأذيها بأمراضها، وليس على الزوج معالجةُ أمراضها فيما تتأذى به، وإنما عليه أن يهيىء لها ما سبق تمهيده. والأصح ما ذكره الصيدلاني، وليس تأذيها بالوسخِ من قبيل الأمراض؛ فإن الأمراض وإن كان يغلب طريانها في المدد، فليس مما يُقضى فيها بأنها ستكون لا محالة، وركوب الدرن والوسخ وتلبد الشعر، ووقوع الهوام، مما يقع وقوعَ الجوع، فيجب أن تُكفَى هذه الجهة، كما تُكفَى الحر والبرد.
10109- فأما إذا طلبت المرأة الدهن لتترجل به، فقال الرجل: أما ما تتأذَّيْن به من وسخ، فعليّ أن أهيىء لك ما تستعينين به على إزالة ذلك، وأما الزينة بالترجل، فلست أبغيها منك، وهي حظِّي وليس من ضرورتك، فظاهر كلام الأصحاب أنه يجب عليه إقامة آلة الزينة لها، وليس يبعد من طريق الاحتمال ألاّ يجب ذلك لما أومأنا إليه، ولها الطيب، ولم يوجب أحد على الزوج بذلَه لها ما يقطع الروائح الكريهة، ولا يتأتى قطعها إلا به كالَمْرتَك في قطع الصِّنان، فهذا فيه نظر؛ فإن الماء قد يكفي فيه، مع استعمال ترابٍ أو غيره، فإن كان لا يتأتى القطع إلا بما ذكرناه، فنقطع بتحصيله لها، فإن هذا مما يؤذيها في نفسها، وعلى الفقيه ألاّ يَغفُل نظرُه عن الرواتب من هذه الأمور، وعما يطرأ بعارض.
والكحل لم يوجبه أحد وألحقوه بالطيب، ولم يختلفوا أنه لا يجب على الزوج مؤن المعالجة، كالأدوية ومؤنة الحجامة والفصد، وما في معانيها.
10110- ومما يجب إعداده ماعون الدار كظروف الماء، والقِدْرِ للطبخ، وما في معناه من المغارف وغيرها مما يظهر التضرر بسبب فقدها، ثم ظروف الماء قد تكون خزفية، وقد تكون نحاسية، والسبيل فيها الإمتاع، كما ذكرناه في المسكن والمفارش، ويتجه أن تكتفي الخاملة بظروف الخزف، والشريفة تبغي النحاسية.
ويجوز أن يقال: طلب أواني النحاس من رعونات الأنفس، وليس كالمسكن، فإن المسكن الضيّق يغُمّ ويضر إضراراً بيّناً، والعلم عند الله.
وإذا تعلق الكلام بالكفايات، وأثبتت على خلاف المراتب، لم يكن استيعاب المقاصد منها بالمسائل، وإنما الممكن تمهيد الأصول على أقصى الإمكان في التقريب، والله المستعان.
فصل:
10111- المكاتب وإن كان موسعاً عليه، فنفقته نفقة المعسرين؛ فإن ملكه غيرُ تام، ولهذا قبض الشرع على يديه، ومنعه من الاستقلال بالنفس في التبرعات، وردّد الشافعي القولَ في نفوذ تبرعاته بإذن المولى.
والعبد ينفق نفقةَ المعسرين سواءٌ كان محجوراً عليه أو مأذوناً له في التجارة، وسواء ملكه المولى وفرعنا على أنه يملك بالتمليك، وسواء أذن له في إتلاف جميع ما ملكه أو لم يأذن.
فأما إذا كان بعضه رقيقاً وبعضه حراً، وقد كثرت أمواله، بالبعض الحر منه، فالذي أطلقه الأصحاب أن نفقته نفقة المعسرين لما فيه من نقص الرق، وكل ما يبنى على كمال، فمن بعضه رقيق فيه ملتحق بالأرقاء، كالشهادات والولايات.
وقال المزني: إذا كان غنياً ببعضه الحر، نظرنا إلى الرقيق منه والحر، فإن كان النصف منه رفيقاً، فيخرج نصف نفقة المعسرين، وهو نصف مُدّ ويخرج نصف نفقة الموسرين وهو مد، فيجتمع مد ونصف بهذا الاعتبار، وإن تفاوت مقدار الرق والحرية، فيتفاوت الحساب، والمتبع الاعتبار الذي ذكرناه، وهذا المسلك مشهور للمزني، ومعظم الأصحاب على مخالفته.
وذهب بعض أصحابنا إلى اتباعه واختيار مذهبه، وإلحاقه بمذهب الشافعي رضي الله عنه.

.باب: الحال التي تجب فيها النفقة:

قال الشافعي: "إذا كانت المرأة يجامَع مثلُها... إلى آخره".
10112- النكاح في القواعد معدود من موجِبات النفقة، كالقرابة، وملك اليمين، ثم اشتهر في الطرق من الأصحاب ذكرُ قولين في أن النفقة تجب بالعقد أم بالتمكين، وهذان القولان مستخرجان من معاني كلام الشافعي وتعاليله في المسائل على ما قد ننبه على بعضها، على حسب مسيس الحاجة.
والغرض من منشأ القولين يتبيّن بما ننبّه عليه، فنقول: النفقات الدارّة لا تجري مجرى الأعواض على التحقيق، وإنما هي كفاية في مقابلة ارتباط المرأة بحِبالة الزوجية؛ فإن للزوج سلطانَ منعها عن التبسط، فقابل الشرع ما أُثبت له من الاحتكام عليها بإيجاب كفاية مؤنها عليه، والصداق هو المذكور على صيغة الأعواض في مقابلة البضع، ثم صح عند المحققين أنه خارج عن حقائق الأعواض، فإذا كان لا ينتصب الصداق عوضاً محققاً، فالنفقات لا يتخيل ثبوتها عوضاً في العقد، ولكن انقدح معنيان:
أحدهما: احتباسها بالعقد على الزوج، والآخر- تمكينها الزوجَ من الاستمتاع.
ولم يختلف العلماء أنها لو نشزت، فلا نفقة لها في زمان النشوز، فلما لم تكن النفقة عوضاً لمنافع البضع حتى يتوقف استقرارها على توفية المنافع، كما يتوقف استقرار الأجرة على توفية المنافع المقابَلَةِ بها مقابلةَ الأعواض على التحقيق، فقال قائلون: النفقة تجب بالعقد: معناه أنها تجب بالاحتباس الذي أوجبه العقد، وذلك مشروط بعدم النشوز، وللشافعي لفظ في (السواد) ينطبق على هذا، وهو أنه قال في نفقة الصغيرة: "ولو قال قائل ينفق لأنها ممنوعةٌ به من غيره، لكان مذهباً " وهذا تعلق منه رضي الله عنه بما يقتضيه النكاح من المنع، وإشارة إلى أن سبب وجوب النفقة ذلك.
ثم هذا يعتضد بقواعدَ لا خلاف فيها، وهي أن المريضة التي لا تؤتَى تستحق النفقة، وإن انحسمت جميع وجوه الاستمتاعات بها، والرتقاء تستحق النفقة، وإن عسر مقصود النكاح عُسراً يُثبت الاطلاع عليه الخيارَ في فسخ النكاح، غير أنها إذا نشزت وامتنعت على زوجها، أسقط الشرع نفقتَها؛ استحثاثاً لها على الطاعة، ودُعاءً إليها كما بين الله تعالى في لطيف كتابه، ردّهن بالموعظة، والهجران في المضجع، والضرب إلى الطاعة.
وصاحب القول الثاني يقول: إيجاب المؤن على الزوج على مقابلة التمكين من الاستمتاع، فالتعويل على التمكين، ولا يُفرض التمكين على الحِلّ إلا في عقد.
ويتبين القولان بشيئين:
أحدهما: أن الزوجين لو اختلفا: فقال الزوج: لم تمكّني، وقالت: مكنتُ، وذكرا على مُوجَب النزاع مدةً، وحاول الزوج سقوطَ النفقة بها، وأرادت المرأة استقرارها في تلك المدة، ففي المسألة قولان مشهوران:
أحدهما: أن القول قول الزوجة.
والثاني: أن القول قول الزوج.
ولا خروج لهذين القولين إلا على القولين المذكورين في موجَب النفقة.
فإن قلنا: النفقة تجب باحتباسها في حِبالة النكاح، ودوامُها مشروط بعدم النشوزَ، فكأن الزوج يدّعي عليها النشوزَ، والأصل عدمُه، ولا حاجة بها إلى ادعاء التمكين، وإنما تنفي النشوز.
وإن قلنا: موجِب النفقة التمكينُ، فهي تدعي صدورَ التمكين منها، والأصل عدمه، فالقول قول الزوج. فهذا أحدُ ما يبيّن القولين.
والثاني: إن نكح امرأة ولم يطلب زفافَها، ولم تُظهر المرأة وأهلُها امتناعاً، وتمادى على ذلك الزمنُ، فهل تستقر النفقة في زمان السكوت؟ على القولين المقدّمين، لست أشك في سماعهما من شيخي.
وقطع العراقيون بأن النفقة لا تثبت في زمان السكوت، وليس من الممكن القطع بهذا مع إجراء القولين في الاختلاف الدائر بين الزوجين، فنقول: إن قلنا: موجب النفقة العقد ولا تسقط إلا بالنشوز، فلم يصدر منها نشوز، فاستمرّت النفقة، واستقرت لقيام موجِبها، وانتفاءِ مسقِطها.
وإن قلنا: النفقة تجب بالتمكين كما تستقر الأجرة بالتخلية والتمكين، فلم يوجد من المرأة تمكين، كما لم يوجد منها نشوز، فلا تستحق النفقة.
هذا ما رأينا تصدير الباب به.
10113- ثم إن الشافعي ذكر نفقة الصغيرة المنكوحة، وذكر النفقةَ على الزوج الصغير، والمسلك الذي نراه أقربَ إلى البيان وإيضاحِ الغرض، تفصيلُ الصور، ثم جمعها، فإذا نكح الرجل صغيرة لا يؤتى مثلُها لصغرها، فهل تثبت نفقتها؟ فعلى قولين منصوصين للشافعي، وتوجيه القولين يعسر افتتاحه، مع القطع بأن المريضة المُدنِفة تستحق النفقة، لا نعرف في ذلك خلافاً، فإذا تعلق موجِب النفقة بذلك، عسر على ناصر القول الثاني الفرق، وليس على قول من يقول: لا تنحسم جميع وجوه الاستمتاع في حق المريضة معوّلٌ؛ فإن التصوير الحاسم لجميع وجوه الاستمتاع ممكنٌ في حق المريضة.
والوجه في تنزيل القولين أن نقول: الصبا المانع، ثم الكبر الذي يتهيأ معه الوقاع مما يترتب على ترتيب الخلق وأطوار التردد، فكأن الصبية في نوبة من عمرها لا تقصد للاستمتاع، وإنما يعتقد أوان الاستمتاع بعد الترقي عن الصغر المفرط، والأمراض عوارض لا ترتّب لها، ولا تعدّ من الأطوار التي يقع عليها أدوار النشوء، فلم ير الشرع اعتبارَها، وأمّا الرتَق، فأمر دائم لا يزول، وهو من ضرورة الخلقة، والنكاح يدوم، فلو أسقطنا نفقتها، لأدمنا حبسها من غير كفاية.
فإذا وقع التنبه لهذا، وظهر تميز الصغيرة عن المريضة، والرتقاء، فنوجه القولين بعد ذلك ونقول: تستحق النفقة للاحتباس، وهذا تعليل الشافعي وينطبق هذا بعد التحرز عن المرض والرتق- على ما ذكرناه من القولين في أن النفقة تجب بماذا؟
ومن لم يوجب النفقة لم يعتبر الصّغر بالمرض، واعتضد بأن الصغيرة لا تعدّ في العرف محتبسة بالزوجية، بل هي محتبسة بصغرها، والاستمتاع مرقوب ودرور النفقة موقوف على أوان الاستمتاع.
هذا إذا نكح الرجل صغيرة.
10114- فأما إذا زُوِّجت امرأةٌ من صغير لا يتأتى الاستمتاع منه، ففي المسألة قولان أيضاًً، أما وجه وجوب النفقة، فبيّنٌ؛ فإن المانع في الزوج، والمرأةُ متهيئة، وأما من أسقط النفقة، فتعويله ما قدمناه، من أنّ الصغر لم يعدّ في عرف أهل الدين من نُوب المطالبات بالنفقة، والأولى ترتيب القولين في صغره على القولين في صغرها، فإن قلنا: صغرها لا يسقط النفقة، فلأن لا يسقط صغره النفقةَ أولى.
وإن قلنا: صغرها يسقط النفقةَ بخلاف مرضها، ففي صغره قولان، والفارق أن الصغر من جانبها مانع في محل التمكين، بخلاف الصغر في جانبه.
ولو زوجت صغيرة من صغير، والصغر من كل واحد منهما مانع فالقولان في النفقة جاريان، وهما مرتبان على القولين في صغره. وإن أحْبَبْتَ رتبتهما على القولين في صغرها والزوج كبير.
10115- وإن جمعنا الصور وأردنا أن نجريَ الأقوالَ في جميعها، قلنا: أحد الأقوال- أن الصغر ينافي وجوبَ النفقة في أي جانب فرض، والثاني: أنه لا ينافي وجوب النفقة في أي جانب كان، والثالث: أن الصغر فيها ينافي وجوب النفقة، والصغر فيه لا ينافي وجوب النفقة.
ويجري قول رابع أن الصغر فيهما ينافي وجوب النفقة، والصغر في أحدهما لا ينافي الوجوب.
وسرّ هذا الفصل في تمييز الصغر عن البرص والرتق، وتنزيل القول فيه على نوب الخلقة، أو على احتباس المرأة بالعقد.
واختار المزني أن صغرها يسقط النفقة وصغر الزوج لا يسقط النفقة، إنما ذكرت اختيار المزني؛ لأن الفطن قد يرى إسقاط النفقة لصغر المرأة على خلاف القياس، وإذا اعترض مثلُ هذا الظن ورأينا المزني على مخالفته، قوي الاعتضاد بمذهبه.
وفي بعض التصانيف أن البالغة إن نكحت صغيراً على علم، ففي نفقتها قولان، كما ذكرناهما، وإن نكحت ولم تعلم صغر الزوج، استحقت النفقةَ قولاً واحداً.
وهذا التفصيل لم أره لأحد من الأئمة المعتبرين، وما يُسقط النفقة لا يختلف بالجهل والعلم. والعلم عند الله.